معضلة التوجه الأمريكي وسياسة إعادة التدوير

معضلة التوجه الأمريكي وسياسة إعادة التدوير

مع زيارة مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية إلى ليبيا مطلع العام الجاري؛ اتضحت معالم التوجه الأمريكي في ليبيا فيما يتعلق بالموقف الأمريكي من أبرز القضايا والتحديات التي تعيق الاستقرار وتغذي حالة الاحتراب واستمرار دوامة العنف، ما ينعكس بالضرورة على منطقة حوض البحر الأبيض على شكل موجات من المهاجرين نحو الضفة الشمالية من المتوسط، بالإضافة إلى عدم استقرار تدفق الطاقة؛ ما يهم الولايات المتحدة على المستوى الإستراتيجي بالدرجة بنفسها الحضورُ الروسي وفاعلية شركة فاغنر الروسية في منطقة الساحل والصحراء.

معضلة التوجه الأمريكي وسياسة إعادة التدوير

منذ بداية العام نشط المبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا ريتشارد نورلاند في الحشد للانتخابات وإجرائها عبر تصريحاته الصحفية ولقاءاته مع المسؤولين السياسيين الليبيين التي أعقبت زيارة وليام بيرنز رئيس وكالة المخابرات المركزية.

إلا أن الرؤية الأمريكية لإجراء الانتخابات من جهة وإخراج قوات فاغنر من جهة أخرى تتسم بالمثالية المفرطة بتكرار الاعتماد على مسببات الأزمة لحلها، وهو ما ينبع من قراءة المشهد من زاوية الاعتماد على المؤسسات الرسمية والحرص على عدم تجاوزها في حين تؤكد المؤسسات الرسمية -مثل مجلسي النواب والأعلى للدولة- عدم جديتها في التعامل مع الطرح الأمريكي بالإضافة إلى التحايل على المسارات السياسية التي قد تؤدي إلى تغيير جاد.

من جانب آخر، اجتماع الأفريكوم برئاسة الأركان في المنطقة الغربية ورئاسة أركان حفتر برعاية المبعوث الأمريكي الخاص لتشكيل جبهة موحدة لقتال قوات فاغنر في الجنوب يؤكد استمرار النهج الأمريكي في تدوير أدواته القديمة؛ وهو ما تم على أساسه دعم قوات 5+5 للقاءات في طرابلس وبنغازي بحضور أبرز القادة الميدانيين للطرفين.

وبالنظر إلى القوتين التي تود الولايات المتحدة توحيدهما لمجابهة الروس فإن الأمريكان في هذه الحالة يعولون على قوات تفتقر للفاعلية العسكرية على الأرض من جانب كما تفتقر للقدرة على الحشد والتسليح من جانب آخر، وهو ما يؤكد ضعف القراءة للمشهد وخللا في البيانات وتحليلها.

لا يزال الأمريكان يرون حفتر شريكا أساسيا في المشهد السياسي الليبي كما يعدونه شريكا ضروريا لإخراج قوات فاغنر ومجابهتها في الوقت الذي يجب أن يُنظر إلى قضية تمدد الروس في ليبيا على أنها تمت بناء على تحالف مع حفتر وقواته في تأمين المواني النفطية ومن بعدها محاولة السيطرة على العاصمة طرابلس، كما أن انتشار قوات فاغنر في الحقول والمصافي النفطية تتم في جغرافية تقع تحت سيطرة قوات حفتر.

وفي الوقت الذي تمارس الولايات المتحدة الضغط السياسي والدبلوماسي على حفتر لتخليه عن حلفائه الروس يظهر حفتر استمرارية العلاقة بعد تسريبات “وال ستريت جورنال” و”الغارديان” التي كشفت دعم الأخير لقوات الدعم السريع في السودان حليفة فاغنر.

كل ما سبق ذكره يؤكد أن القراءة الأمريكية للمشهد الليبي ما زالت تعتمد على الأدوات التقليدية التي تسببت تسببا مباشرا غالبا وغير مباشرٍ أحيانا في التمدد الروسي وقلة الاستقرار، ما يجعل من قدرتها في تنفيذ رؤيتها وتوجهها أمرا بالغ الصعوبة في ظل اعتمادها على الأدوات ذاتها التي أثبتت قلة فاعليتها.

شركة فاغنر “الرابح الأكبر”

لا يمكن الحديث عن تمدد روسيا عبر شركة فاغنر الأمنية في ليبيا دون التطرق لاستغلالها فرصة الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة وحلفاؤها، كما أنه من غير الممكن أيضا أن نتحدث عن وجود شركة فاغنر دون الإشارة إلى دور حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في ذلك كالقاهرة وأبو ظبي، وهما من لعب الدور الرئيس في الوجود الروسي في ليبيا وقد مولت الإمارات مصاريف شركة فاغنر بادئ الأمر وساهمت مصر لوجستيا في تسهيل عمليات الشركة في ليبيا عبر قواعدها الجوية والارتباط السياسي الذي وصل من العمق، حتى أن رئيس مصر هو من تحدث باسم الروس حين جعل من سرت خطا أحمرَ سيكلف تجاوزها قوات بركان الغضب تدخلا عسكريا مصريا مباشرا.

إذنْ الانسحاب الأمريكي الهادئ وتفويض حلفائها والارتياح للحملة العسكرية التي قادها حفتر لاستهداف المجاميع الإسلامية المسلحة بدعم من مصر والإمارات وبارتياح أمريكي وغربي؛ كلّفَ فرصةً استغلتها روسيا عبر شركة فاغنر الأمنية شبه الرسمية ذات النفوذ الواسع في روسيا التي جعلت من ليبيا مركزا للحركة في إفريقيا لتهدد بذلك أمن الطاقة وتدفقها لأوروبا وهو ما يشكل تهديدا مباشرا للإستراتيجيات العامة الأمريكية والأمن القومي للولايات المتحدة.

ما تزال الولايات المتحدة تعول على العناصر المحلية في إخراج فاغنر من البلاد عن طريق الصدام المباشر والقتال، وهو ما يمكن أن يُعد تفاؤلا أمريكيا مبالغا فيه في التعويل على الأطراف المحلية، كما أن الأطراف المحلية المعول عليها ما تزال تحتفظ بعلاقتها مع فاغنر وروسيا التي تبدو بينهما علاقة فاعلة على الأرض.

خلاصة

تلجأ الولايات المتحدة مع السياسيين الليبيين إلى سياسة الاستيعاب والتوجيه معتمدةً على شخصية السياسي الليبي الذي يظهر الطواعية والامتثال المباشر للتوجيهات من السفير أو المبعوث العام الأمريكي، إلا أن السياسي الليبي ذاته لم يعد بتلك الطواعية التي عهدتها الولايات المتحدة في السنوات الماضية إذ بكثرة الفاعلين الدوليين في المشهد الليبي كثرت الارتباطات السياسية الخارجية للمسؤول الليبي الذي بات يمضي في مسارات سياسية تمثل دولا بعينها ما يعني أنه لم يعد طرفا يمكن إقناعه أو توجيهه وهو ما يدفع الولايات المتحدة إلى الحشد لإجراء انتخابات في أقرب وقت هذا العام إلا أن اعتمادها على الأدوات ذاتها قد يجعل من المساعي الأمريكية تصطدم بمعوقات غير محلية.

كما أن التعويل الأمريكي على إخراج فاغنر من ليبيا على يد قوات محلية يبدو تفاؤلا في ظل الارتباطات السياسية والميدانية غير المنقطعة بين حفتر وفاغنر التي تبرهن آخر التسريبات على سريانها في السودان، ما يؤكد أن القراءة الأمريكية للمشهد لا تبدو بدرجة عالية من الواقعية والجدية المطلوبة مقارنة بالسعي والتوجه الذي تطمح إليه.

اشترك في القائمة البريدية