بوعجيلة مسعود في قبضة العم سام

بوعجيلة مسعود في قبضة العم سام

قبل أن يعلن  رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة أن التعاون والتنسيق في تسليم بوعجيلة مسعود كان وفقا للقوانين والتشريعات الدولية المتعلقة بالعمليات الإرهابية التي تنفذ في الخارجّ؛ استهل الليبيون أسبوعهم بإعلان وزارة العدل الأمريكية تسلمها للمواطن الليبي أبوعجيلة مسعود المريمي العميد السابق في جهاز المخابرات الليبية في عهد القذافي، الذي تتهمه واشنطن بالضلوع في تدبير حادثة تفجير الطائرة الأمريكية “أميركان بال” في سماء مدينة لوكربي الأسكتلندية التي راح ضحيتها جميع الركاب البالغ عددهم 259 راكبا إلى جانب 11 شخصا من المدينة سقطت عليهم شظايا الطائرة.

وقبل إعلان الوزارة الأمريكية بحوالي ثلاثة أسابيع نما خبر اختفاء أبوعجيلة وغيابه عن مسكنه في حي ابوسليم بالعاصمة طرابلس الذي شابه كثير من الغموض، ما دفع جهات عدة رسمية ومدنية إلى استنكار الحادثة والمطالبة بالكشف عن مصير أبوعجيلة الذي تبين بعدها أنه في قبضة القضاء الأمريكي، فجاءت الإدانات بعدها من عدة أجسام أهمها المجلسان الأعلى للدولة والنواب الذي طالب النائب العام بتحريك الدعاوي الجنائية ضد المتورطين في الحادثة في إشارة إلى حكومة الوحدة الوطنية، لكنها إدانات -وإن تلبست بلبوس الوطنية والغيرة على سيادة الوطن- تبدو في إطار المناكفات السياسية بين المجلسين والحكومة، فتسليم المواطنين الليبيين ليس أمرا تمانعه هذه الأجسام من حيث المبدأ بدليل تسليم خمسة مواطنين ليبيين في آخر عشر سنوات للولايات المتحدة والمملكة المتحدة، دون أدنى اعتراض أو إدانة من السلطات والمجالس التشريعية التي كانت تحكم البلاد حينها.

جاء موقف المجلس الرئاسي مطالبا الحكومة بتوضيح ما سماها “واقعة مثول” أبوعجيلة أمام القضاء الأمريكي دون أن يصفها بواقعة خطف أو تسليم، ما يدل على لغة أقرب للتحفظ وموقف غير حاسم، من جانب آخر فإن مطالبة الرئاسي وزارة العدل بالتنسيق مع وزارة الخارجية لتعيين هيئة دفاع لـ”أبوعجيلة” تعد تعاطيا مع الحالة ونتائجها دون موقف يتماشى مع حجم الحدث، ما يشير إلى تنسق مباشر مع الحكومة ومشاركة الرئاسي في لعبة توزيع الأدوار. 

من جهة أخرى فإن تصريحات النائب العام بفتحه تحقيقا في الحادثة لا تعدو أن تكون تفاعلا إعلاميا مع الحادثة خصوصا وأن التسريبات التي أوردتها صحيفة الغارديان تتحدث عن ضلوع الكتائب العسكرية الكبرى في المنطقة الغربية، فجهاز دعم الاستقرار هو من قام باحتجاز أبوعجيلة واقتياده من بيته لتتسلمه القوة المشتركة في مصراتة التي سلمته للأمريكيين مباشرة، وهو ما يجعل مهمة النائب العام في الكشف عن الحقائق وإدانة المتورطين تواجه القوة الخشنة على الأرض التي لا يبدو أن للقانون يدا طولى عليها. 

دوافع الاهتمام الأمريكي

تبقى الأسئلة الرئسية حول الحافز الأمريكي للقبض على رجل متورط في حادثة جرت عام 1988 وسويت عام 2006 وأبرمت الولايات المتحدة حينها اتفاقا نص على وقف التقاضي في القضية بناء على قانون اقترحه عضو الكونغرس جو بايدن الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأمريكية، ويمكن النظر إلى أن عملية القبض التي تمت شديدة الهشاشة من الناحية القانونية الأمريكية وستكون المحاكمة في الولايات المتحدة عملية صعبة أمام الاتفاقية المحصنة قانونا عام 2006، ولكن يمكن اعتبار الهدف من القبض على أبوعجيلة ينقسم لشقين أولهما معنوي الجانب نفسي التأثير يعزز فكرة الهيمنة الأمريكية على العالم وأن اليد الطولى للولايات المتحدة ستطارد وتقبض على كل من يتورط في أذية الولايات المتحدة في رسالة طمأنة من إدارة بايدن إلى الداخل الأمريكي مؤكدة فكرة التفوق الأمريكي. أما الشق الثاني فهو أهمية أبوعجيلة من حيث المعلومات ومدى قدرته على التعاون في قضايا أخرى عدا لوكربي واعتباره بنك معلومات يمكن من خلاله فهم واستيعاب العمليات الخارجية لنظام القذافي طوال أربعين عاما كانت الولايات المتحدة تعد نظامه ضمن الأنظمة المارقة في المعالم. إلا أن التعامل الأمريكي المباشر مع المليشيات يأتي ضمن الواقعية الأمريكية التي تسمح للإدارة الأمريكية بتحقيق أهدافها ولو كانت عبر أسوأ خصوم الولايات المتحدة من تجار مخدرات ومهربي بشر ومليشيات ومجاميع مسلحة، دون أن يشعر صانع القرار الأمريكي بالخجل أمام الرأي العام المحلي كونه يحقق الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة.

ورطة حكومة الوحدة أم صفقة رابحة ؟ 

من غير المنطقي ولا الواقعي اعتبار تسلم الـ”إف بي آي” لــ”أبوعجيلة مسعود” دون علم الحكومة أو أذنها فحسب بل دون تسليمها لـ”أبوعجيلة” نفسه للولايات المتحدة، فالشواهد كثيرة أهمها تصريح وزيرة خارجية حكومة الوحدة نجلاء المنقوش قبل أكثر من عام، تحديدا في السابع من نوفمبر عام 2021 في مقابلة لها على الـ”بي بي سي” أن ليبيا ستسلم مواطنا ليبيا مطلوبا للولايات المتحدة متورط في قضية لوكربي وهو ما أثار حفيظة المجلس الرئاسي ودفع رئيسه لإصدار قرار بإيقاف الوزيرة عن العمل ليثير هذا القرار أزمة بينه وبين الحكومة حينها.

تصريح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن عن أن تسلم أبوعجيلة جاء نتيجة جهود دبلوماسية في عدم إشارة إلى أي جانب أمني أو عسكري يؤكد أن عملية تسليم أبوعجيلة تم بناء على قرار سياسي من الطرف الليبي وتعاون مع الولايات المتحدة في الملف، وأنه عمل لم يتم رغما عنها أو نتيجة لعملية أمنية خاطفة كما جرت العادة عند الأمريكان. 

اختفاء أبوعجيلة وتسليمه يأتي في ظرف زمني ملاصق للتصريح الأمريكي على لسان الناطق باسم الخارجية عن خيارات الولايات المتحدة في ليبيا ودعمها لمسار إجراء الانتخابات البرلمانية، كما صرح المبعوث الأمريكي الخاص ريتشارد نورلاند أن ليبيا ليست بحاجة لجيش من الوزراء المؤقتين بل بحاجة إلى الانتخابات.

ولأننا لا نناقش في هذه الورقة فرضية الانتخابات واحتمالية ومدى فرصة إنجازها على المدى القريب ولكن من نافلة القول أن نشير إلى أن خيار الانتخابات أولا هو خيار حكومة الوحدة أمام المجالس التشريعية وخصمها فتحي باشاغا وحكومته، أي أن الموقف الأمريكي هذه المرة هو جلي بشكل لا تخطئه العين في انحيازه للحكومة وخياراتها السياسية على الصعيد المرحلي على الأقل وهي فكرة رفض الانتقال إلى حكومة مؤقتة ثالثة ما يعني استمرار حكومة الوحدة ورئيسها في منصبه إلى حين إجراء الانتخابات والتي قد تستغرق عدة سنوات في أحسن الأحوال.

يبقى موقف الحكومة الصامت تجاه الحادثة وعدم التعليق ولو بإيجاز صحفي تجاه تسليم المواطن الليبي أبوعجيلة مسعود هو ما يجعلها في ظرف سياسي لا تحسد عليه لعدم امتلاكها الرواية السياسية التي تدفع عنها التهم كما أن تبريرات التسليم لا تبدو الحكومة نفسها مقتنعة بها أو استطاعت مكينتها الإعلامية صياغتها.

الخلاصة :

تمثل حادثة تسليم أبوعجيلة مسعود رمزية هوان المواطن الليبي وضعف بنية الدولة ومؤسساتها التي باتت تقرر نيابة عن الليبيين في الأروقة المغلقة بعيدا عن الرأي القانوني والسياسي المدعم ببيوت الخبرة وآراء المختصين. يمكن اعتبار الحدث من الناحية السياسية ذي دلالات منخفضة المستوى إلا أنه من الناحية المؤسسية يؤكد عدم فاعلية المؤسسات في ليبيا، كما تؤكد حالات الإدانة من الجهات المسؤولة والتشريعية مناكفة سياسية لا تدل إلا على عدم الجدية في تبني قضايا كرامة المواطن الليبي الذي سُلم قبل أبوعجيلة مسعود خمس مرات تقريبا في أقل من عشر سنوات لجهات دولية دون هذا الحجم من الإدانات.

كما تؤكد إجراءات الحكومة على تبنيها عقلية الصفقات عوضا عن المسارات السياسية وهو ما يجعل أداءها السياسي في مستوى من الارتباك ويعرضها للابتزاز السياسي الخارجي لتستجيب له بسرعة بناء على عقليات الصفقات الطاغية.

اشترك في القائمة البريدية