طرابلس وضع ميداني هش

طرابلس وضع ميداني هش

يستمر الوضع الميداني في العاصمة طرابلس بالتأرجح خصوصا مع تباين المواقف بين التشكيلات المسلحة فيها، وبالنظر إلى المشهد السياسي الراهن نجد إن هذه التشكيلات استطاعت أن تفرض سطوتها عليه عبر تعزيز دورها في صناعة القرار السياسي وتوجيهه؛ لأسباب تحاول هذه الورقة تسليط الضوء عليها ومناقشتها بجدية.

اشتباكات طرابلس التوازن يتمزق ولا ينهار

الاشتباكات الطفيفة حدث اعتاده سكان العاصمة طرابلس بين الفينة والأخرى، وفي هذه السانحة سنناقش حدثين مفصليين يتعلقان باشتباكات التشكيلات المسلحة بعضها ببعض في اختراق لحالة الجمود والتوازن.

أولها حادثة تسلل باشاغا للعاصمة طرابلس في مايو المنصرم، عبر كتيبة النواصي التي حاول آمرها الاستفراد بحماية باشاغا، ما أثار حفيظة سائر الكتائب الرئيسة في العاصمة وجعلها في مواجهة مع النواصي أسفرت عن اقتتال، قبل أن يتدخل اللواء 444 بتأمين خروج باشاغا من العاصمة وتهدئة الوضع الميداني.

التوازن الذي تمزق في هذه الحالة كانت شواهده حالتين إقالة مصطفى قدور من منصبه نائبا لرئيس جهاز المخابرات، وإقالة أسامة جويلي من منصبه رئيسا للاستخبارات العسكرية، إلا أن الأول سرعان ما استعاد بسلاسة مواقعه ومنصبه بحكم الحاضنة الاجتماعية في منطقته “سوق الجمعة” والتي تمثل نقطة قوة في تحركاته، في الوقت الذي كانت إقالة جويلي استفزازا أثار حفيظته ليشهر نشاطه المناوئ لحكومة الوحدة.

كانت دوافع اقتتال التشكيلات المسلحة في طرابلس غاية في الوضوح، ومنها خرق مصطفى قدور آمر كتيبة النواصي للتوازن المتفق عليه ضمنا أو ما يمكن تسميته تفوقا سياسيا سيحرزه الرجل باستقباله لفتحي باشاغا واحتكار ذلك والضن به عن باقي التشكيلات، وهو ما يشكل خطرا على التوازن بين التشكيلات في الدور والنفوذ ما سينعكس مباشرة على القوة والحركة على الأرض.

قوات الردع توسع نوعي

الحدث المفصلي الثاني تمثل في اشتباكات قوات الردع الخاصة مع قوات تابعة لأيوب بوراس وهو القائد الفعلي لكتيبة ثوار طرابلس ورئيس جهاز الحرس الرئاسي ونائب رئيس جهاز دعم الاستقرار، بسبب تعرض أحد ضباط قوات الردع الخاصة للإيقاف في إحدى نقاط التفتيش التابعة لبوراس، لتشتعل حرب واسعة بين الطرفين كردة فعل من قبل قوات الردع، التي شنت هجوما شاملا على مقرات ونقاط تمركز والجهات التي تؤمنها قوات بوراس في وقت قياسي وتجهيز يبدو أنه قد سبق الحادثة.

وهو ما يدل على استعداد مسبق لهذه العملية من قبل قوات الردع وموافقة الحكومة والتشكيلات المسلحة الأخرى ضمنا عبر الصمت أو الحياد غير المفهوم، إلا أن الموقف الأكثر وضوحا هو موقف قوات الـ444 التي لم تحل دون تقدم قوات الردع نحو المعسكر الرئيس أيوب بوراس في عين زارة. ويفهم هذا الحدث في سياق الضجر من استفراد بوراس بعدة ملفات منها ما هو متعلق بوزارة الصحة والعقود والعمل والابتعاث للخارج وغيرها من الملفات الحكومية.

وتأتي إقالة وزير الداخلية خالد مازن، وتعيين بدرالدين التومي إشارة مطمئنة لقوات الردع خصوصا أن التومي هو ابن منطقة سوق الجمعة الحاضنة الاجتماعية الأساسية لقوات الردع، لم تحرك قوات وتشكيلات العاصمة ساكنا خلال هذه الاشتباكات رغم أن أيوب بوراس يُعد عمليا نائب رئيس جهاز دعم الاستقار عبدالغني الككلي ورئيس جهاز الحرس الرئاسي التابع بشكل مباشر للمجلس الرئاسي.

وقد مضت الأيام بعد هذه الحادثة دون أي ردود فعل تذكر دلالة على قبول بالأمر الواقع، ورغم ما خلفه الحدث من إصابات في صفوف المدنيين وخسائر في الممتلكات العامة والخاصة، إلا أنه لا يعني كثيرا على الصعيد الميداني ولا يكسر التوازن الميداني بين التشكيلات، إلا أن المستغرب هو حجم ردة الفعل مقارنة بالدافع والرواية التي تبنتها قوات الردع.

انسداد سياسي وتوتر متصاعد 

رغم حالة الانسداد التي يمر بها الوضع السياسي فيما يتعلق بمستقبل العملية السياسية، فإن القوة المؤيدة لوجود حكومة الوحدة الوطنية تبدو الأكثر تماسكا من حيث الأفراد والمعدات على الأرض، وهو ما يعني أنه دون تحقيق أي اختراق للمعسكر الداعم للدبيبة فإنه من غير المرجح أن تحدث الحالة التي يقودها فتحي باشاغا أي تقدم على الصعيد الميداني، ومما دل على ذلك اشتباكات البارحة في العاصمة طرابلس ومحاولة قوات تابعة لأسامة جويلي التقدم غرب طرابلس التي منيت بالفشل أمام استنفار وتصدي قوات داعمة لحكومة الوحدة لهذا التقدم المباغت.

توزنات دولية تحول دون اشتعال الميدان عسكريا

تشير عدة مصادر إلى تحفظ تركي وتحذير أمريكي من محاولة إشعال الوضع الميداني في العاصمة طرابلس من قبل الطرف الذي يحاول اقتحامها منذ أشهر لتمكين الحكومة المكلفة من مجلس النواب لمباشرة عملها من العاصمة طرابلس.

وقد صرح أسامة جويلي في مداخلة له بعدم رغبته ابتداء أي قتال ولكنه سيواجه أي طرف يمنع الحكومة من الدخول إلى العاصمة، وهذه التصريحات كانت سببا في خلافات داخل معسكر باشاغا وهو ما يفسر سرعة خروج الرجل في مقطع مصور بث عبر منصة الفيسبوك مؤكدا تمسكه بالسلمية وأنه لن يلجأ للعنف، في إشارة إلى التزامات قد يبدو أن باشاغا قد أكدها لأطراف دولية وعلى رأسها المبعوث الأمريكي الخاص في ليبيا ريتشارد نورلاند.

خلاصة الحدث:

تحولت التشكيلات المسلحة في العاصمة طرابلس من مجرد قوات أمنية عسكرية إلى أشبه ما يمكن أن يسمى “أهل الحل والعقد” فقد بات دخول العاصمة ومسألة تولي السلطة يمر عبر موافقة هذه التشكيلات متعدية دورها الأمني والعسكري الهش وغير المحترف في أغلب الأحيان إلى التحول إلى قوى ذات مصالح ونفوذ تسعى للحفاظ عليه وتعزيزه.

من غير المرجح أن يخفت دور التشكيلات المسلحة في المشهد السياسي خصوصا مع استمرار الاستقطاب الحاد بين الأطراف السياسية وتعثر الوصول إلى مسار سياسي تتفق عليه الأطراف السياسية المتصارعة على طاولة السلطة؛ وهو ما يؤكد أن الاشتباكات العسكرية ستستمر بين الفينة والأخرى كأبرز قواعد لعبة النفوذ التي تجيد هذه التشكيلات لعبها.

اشترك في القائمة البريدية