في خضم معركة طوفان الأقصى ؛ المستحيل الذي صار ممكنا

في خضم معركة طوفان الأقصى ؛ المستحيل الذي صار ممكنا

كانت أول طلقة من طلقات معركة طوفان الأقصى بمثابة الإعلان عن انهيار سقف “الممكن السياسي” وظهور أفق أكثر رحابة، كان يوما ما يوصف بالمستحيل، أو الــلا سقف إن أحسنا التعبير.

يمكننا بعد عملية طوفان الأقصى أن نصف الممكن السياسي دون خجل أو مواربة أو احتياط على أنه الاستسلام للواقع والتعامل معه بكل علاته باسم الواقعية والتكيف وغيرها من التوصيفات التي تخفي في طياتها حالة الإحباط السياسي التي خيمت على المنطقة العربية في العقد الماضي، عقب التقاط الأنظمة السلطوية أنفاسها بعيد الربيع العربي، الذي لم تلتقط نخبه السياسية موجته، مستمرة على ذات النسق السياسي الذي سبق الربيع.

الممكن بين نموذجين

الممكن بين نموذجين

وفي حال أخذنا عملية طوفان الأقصى على مسطرة المتاح والممكن فإن مجرد طرح فكرة العبور والانغماس في العدو في عقر تمركزه، بنية تحقيق هدف عسكري رئيسي يتمثل في إبادة فرقة غزة، فهذا يعد خروجا عن المألوف والممكن المتصور، بل إن مجرد طرحها كفكرة قبل السابع من أكتوبر لن يسلم صاحبها من تهمة الجنون، كما أن النتائج التي نتجت عن عملية طوفان الأقصى لو طرحت على أكثر المتفائلين ما كان له أن يتصور إبادة فرقة غزة في ظرف ساعات وهي الفرقة العسكرية الأبرز في مواجهة المقاومة.

وبالعودة إلى الوراء قليلا هناك لحظات لا يأتي ارتباطها الزمني على سبيل المصادفة، بل تأتي على شكل معالم وإشارات للسالكين، ففي الوقت الذي اقتحمت فيه حركة طالبان كابول متوجة نضال العقدين بالفتح وخروج آخر جندي من جنود الاحتلال الأمريكي في صورة مهينة لأعظم إمبراطورية في التاريخ المعاصر؛ في نفس الوقت أعلن قيس سعيد انقلابه في تونس بعد أن سُوقت تجربة التنازل والوئام السياسي على أنها في ذاتها إنجازات ينبغي الإشادة بها.

بالحديث عن التجربتين في كل من تونس وأفغانستان فإننا نتحدث عن أبرز تجليين لفكرة الممكن والمتاح السياسي والتكيف بناء على قواعد اللعبة، ومن الجانب الآخر في أفغانستان فإننا نطرح أوضح صورة وتجليا من تجليات المواجهة المباشرة وتجاوز قواعد اللعبة، كما أننا نتحدث عن حالتين تنبعان من نفس المشكاة نظريا وهي الحالة الإسلامية الضاربة بأطنابها في الواقع السياسي للمنطقة والتي يمكن اعتبارها الفاعل السياسي غير الرسمي الأول.

وبعيدا عن السياقات والظروف والبنية لكل التجربتين إلا أن المآل السياسي لفكرتين متناقضتين ينبغي أن ينظر إليه بجدية، بغض النظر عن الإشادة أو الانتقاص من أي التجربتين، في الإجابة عن السؤال المفتاحي عن منبع ومصدر المسلك السياسي العام لكل نموذج من هذه النماذج، لا يمكننا بأي حال إغفال أثر التصورات السياسية التي يتبناها كل فريق في رسم مساره، بل ومآله إذ أن المعطيات هي المؤثر الأبرز في النتائج.

طوفان الأقصى، صفعة في وجه التصورات السياسية الشائعة

يمكن اعتبار عملية طوفان الأقصى إلى جانب كونها إعادة لكتابة التاريخ فهي تحمل في طياتها إعادة لقراءة التاريخ، تاريخ المنطقة والنظام العربي والمنظومة السياسية الجاثمة على صدور الملايين منذ قرن تقريبا، إذ أظهرت الحالة الفدائية التي انتهجتها المقاومة في يوم العبور نحو مراقي الظفر والنصر أن إسرائيل في ذاتها ككيان سياسي لا تمتلك مقومات البقاء بل تعيش حالة اعتمادية كاملة على النظام الإقليمي العربي، بل إن منبع الغطرسة والاستكبار لا يستمده الكيان إلا من شعوره بالأمان السياسي وارتباط المصائر مع منظومات في المحيط الجغرافي المتاخم.

ومع إعادة قراءة تاريخ المنطقة والنظرة إلى الخريطة التي عبثت بها المسطرة مقارنة بشبيهاتها من حدود الدول ذات التعرجات المتأثرة بالحواجز الطبيعية كسلاسل الجبال أو الأنهار أو غيرها من الحواجز الطبيعية بالنظر إلى المعطيات الجغرافية والحقائق التاريخية التي يحب الكثير إعادة طرحها كالقول أن النظام السياسي العربي من حيث الوجود والتأسيس والدور هو نظام مصطنع ووظيفي، بل إن تكيفات النظام العربي الرسمي وتحولاته من أطوار مختلفة إلى أشكال مختلفة لم يكن في حقيقته سوى إعادة ضبط وتلبية لمتطلبات مراحل بعينها إلا أن الوظيفة والدور لهذه المنظومات لم تتغير إلا في إطار الصراحة والوضوح في تلبية أدوارها الوظيفية.

إن الناظر إلى السياق الدولي والإقليمي يدرك بجلاء ووضوح أن النظام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط هو نظام متشابك الأساس يشد بعضه بعضا وبناء قائم على أساسات موحدة ما يجعل انهيار جزء من المبنى حتميا في سقوط المبنى بالكامل، وقد كان نتنياهو صريحا غاية الصراحة حين بث في مؤتمر صحفي رسالة واضحة إلى من سماهم القادة العرب كون الدور سيأتي عليهم ليس في حال سقوط دولته وكيانه، بل في حال خروج المقاومة منتصرة من معركة طوفان الأقصى والتي ينبغي أن تؤخذ في سياق منفصل عن حروب غزة السابقة باعتبارها أول نقلة نوعية في الفعل العسكري والسياسي في تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني.

لقد أعطت معركة طوفان الأقصى أبعادا جديدة للنظام الإقليمي الذي استنفرت الولايات المتحدة لنجدته ككل إذ تقحمت البحر الأبيض في حاملتي طائرات وجسر جوي من الذخائر والقذائف يمر عبر الدول المتاخمة للكيان الصهيوني في حالة استنقاذ عاجلة للنظام العام في الإقليم وإن كان تمظهره في نصرة إسرائيل في حربها، إذ أن الخروج من القواعد العامة والمرسومة بعناية من حيث الأدوار والفعل السياسي الذي قامت به المقاومة في السابع من أكتوبر لم تستطع الإدارة الأمريكية أن تصفه بوصف خارج عن مخيالها السياسي أو الــــــTrauma السياسية للولايات المتحدة التي أنعشتها عملية طوفان الأقصى فشبهت الحادثة بأحداث الـ11 من سبتمبر.

سقوط التجارب السياسية السائلة البديلة عن المواجهة

لا ينفك الحديث عن كون معركة طوفان الأقصى وما تحلت به من وضوح ومفاصلة حتى أنها كشفت المنافقين وأظهرتهم في صورتهم الحقيقية، وعلى الحقيقة ذاتها فإنه لا ينبغي أن نحتاط أو نتحرج في وصف سقوط التجارب التي لُجئ إليها كبديل وكأفضل الخيارات المتاحة بعد أن ظهر عجزها عن التفاعل بالشكل اللائق والمطلوب مع السياق السياسي الجديد الذي رسمته عملية طوفان الأقصى.

فبعد عشرين عاما على سطوع نجم التجربة التركية والتي بزغت كنجم في وسط الظلام الدامس وربط النجاح الاقتصادي الذي صاحبها والإنجازات الخدمية بالاستقلال السياسي والفاعلية الدولية، دون إشارة أو تأكيد على أن النجاح الاقتصادي والخدمي، بل وحتى السياسي الداخلي جاء على حساب سيولة المنهج والمبادئ الحاكمة والغياب التام للبعد العقائدي عن الفعل السياسي.

إن السقف السياسي المتخيل الذي تبني الدول على أساسه توجهاتها وحركتها الخارجية هو في كثير من الأحيان سقف ذاتي، بل إن وجوده لا يتعدى أن يكون وهما من الأوهام ولعل بروز الموقف السياسي التركي بهذا الشكل في ظل آخر ولاية للرئيس أردوغان والتي قد تكون آخر العهد بتجربة الإصلاح من الداخل حجة حقيقية على عدم فاعلية فكرة العمل من داخل المنظومة والرضا بقواعد اللعبة الموجودة مسبقا والتي لم تشارك في صناعتها وصياغتها ولو بشكل جزئي.

وهو ما يجعل الرهان التحرري على النماذج التي تبنت العمل داخل المنظومة وقدمت نفسها في سياق البديل لا سياق المرجعية الحاكمة على الواقع، رهانا يفتقر إلى الجدية ليؤكد أن حالة المبالغة والدعاية في تسويق خيارات “الممكن” و”المتاح” نابعة بالأساس من عدة مشكلات أبرزها حالة اليأس والإحباط النابعة من استعجال قطف الثمار والنتائج.

اشترك في القائمة البريدية