تمرد المرتزقة : فاغنر تعمق جروح موسكو

تمرد المرتزقة : فاغنر تعمق جروح موسكو

شهدت روسيا حدثا تاريخيا يوم 23 يونيو الماضي، حيث قام “يفجيني بريجوزين” قائد مجموعة المرتزقة الروسية الشهيرة “فاغنر” بإعلان تمرده على الجيش الروسي وتحريك قواته المتمركزة على الجبهة الأوكرانية نحو روسيا للاستيلاء على مدينة “روستوف” الجنوبية والتي تعد مركزا عسكريا مهما لقيادة الحرب.

عقب سيطرة الفاغنر على مقر رئاسة الأركان ومقرات الجيش بروستوف أعلن بريجوزين توجه قواته نحو موسكو، قبل أن يخرج في تصريح مفاجئ يعلن فيه انسحاب قواته على بعد 200كم من موسكو وقبوله لوساطة رئيس بيلاروسيا “أليكساندر لوكاشينكو”، لينتهي بذلك تمرد المجموعة الروسية.

تمثل تحركات بريجوزين والفاغنر سابقة خطيرة في تاريخ روسيا الاتحادية، حيث لم تشهد البلاد وقوع تمرد على السلطة بقيادة الرئيس الحالي وضابط المخابرات الأسبق “فلاديمير بوتن”، وتشكل الأحداث الأخيرة تهديدا مباشرا لهيبة القيادة الروسية المعول عليها في ضبط البيت الداخلي.

تصدعات:

تأتي أحداث التمرد على خلفية تصاعد حدة الخلافات المستمرة منذ عام تقريبا بين قائد الفاغنر وبين عدد من القيادات العسكرية العليا، على رأسهم وزير الدفاع “سيرغي شويغو” ورئيس الأركان “فاليري جيراسيموف”، وتشير المعلومات المسربة من الكرملين عما هو أعمق من الصراع الجاري بين لوبي “بريجوزين” أو ما بات يعرف بلوبي سانت بطرسبرغ –في إشارة لدائرة علاقات بوتن الأمنية القديمة خارج دوائر الكرملين-، ولوبي “شويغو” المعروف بلوبي موسكو.

 التسريبات تكشف ما تخفيه أروقة الكرملين من صراعات بين كبرى الشخصيات الأمنية والمسؤولين في موسكو، أبرزها ما أبانته مصادر انتلجنس اونلاين حول الخلافات المتصاعدة بين شويغو وبين وكالة الاستخبارات الداخلية FSB، وهو ما دفع قيادة الأخيرة في ديسمبر الماضي لتكليف إدارة مكافحة التجسس SKR بفتح تحقيق حول فساد وزير الدفاع وحاشيته دون إذن من الكرملين، وهو حدث غير اعتيادي بالنظر إلى رتبة هدف التحقيق ومكانته، ما يفصح عن مدى تفاقم الخلافات بين مجتمع المخابرات الروسي ووزارة الدفاع منذ بداية الحرب في أوكرانيا.

انعكاسات الغزو على تماسك الدولة ومؤسساتها تبدو فادحة، حيث تشهد مؤسسات الدولة السيادية حالة تصدع غير مسبوق تظهر واضحة في تباين المواقف السيادية من عدد من القضايا والملفات الحساسة، أهمها مقاربة العلاقات الخارجية مع الدول غير الحليفة، مقاربة الحرب الأوكرانية، مقاربة العلاقات مع بكين وغيرها من ملفات.

كما تشهد المؤسسات الأمنية والعسكرية الروسية حالة من الاستقطاب على خلفية السخط المتنامي في الأوساط العسكرية على سياسات موسكو، حيث يعتقد عدد من القيادات الأمنية والعسكرية أن الغزو الروسي لأوكرانيا أو ما يسمى “بالعملية العسكرية الخاصة” تحول إلى لعبة سياسية أوسع بين موسكو والغرب وأنه لولا هذا التصور لأتاحت القيادة الروسية السياسية الموارد اللازمة للاستيلاء على كييف واحتلال أوكرانيا في غضون أيام، وتعبر تصريحات ومواقف بريجوزين الأخيرة عن موقف هذه الأطراف الناقمة على سياسات الكرملين ووزارة الدفاع.

بالتزامن مع تصدعات أجهزة ومؤسسات الدولة، تشير بعض التقارير إلى تحديات من نوع آخر تواجهها موسكو في الداخل الروسي، حيث أفاد تقرير لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي FSB في 2022 أن أكثر من 3.8 مليون مواطن غادروا البلاد في الأشهر الثلاثة الأولى من بدء الحرب، وتشير تقديرات الجهاز الحالية إلى تضاعف هذا العدد منذ ذلك الحين، في إشارة واضحة لتضعضع الثقة الشعبية بالسلطات وقدرتها على التعاطي مع الأزمات التي تواجهها.


تمرد المرتزقة، الدلالات والتبعات: 

تفاوتت التقديرات في تقييم التمرد وحيثياته، فأشار البعض لوقوف بوتن خلفه معللين ذلك بتحقيقه لأهداف استراتيجية تتلخص في فك الارتباط بالفاغنر وصناعة فزاعة “خارجة عن السيطرة” قد تضع يدها على السلاح النووي في بيلاروسيا أو ربما حتى مقاطعة كالينينغراد الروسية، في حين ذهبت التحليلات الأكثر واقعية لكونه نتيجة ضرورية لأزمة الكرملين الداخلية وصراعات الأجنحة الأمنية والعسكرية المستمرة منذ بداية الغزو، وللخلافات بين قائد الفاغنر وقيادة الجيش التي تعود لعام 2018 عقب حادثة تبرأ وزارة الدفاع الروسية من قوات الفاغنر التي هاجمت مصنع كونوكو للغاز في محافظة دير الزور بسوريا.

على صعيد العمليات في الخارج فقد اعتمدت موسكو منذ عام 2014 نهج أو استراتيجية الحروب الهجينة، وهو تعبير أمني يشير إلى استخدام أساليب، تكتيكات، وقوات غير رسمية لخدمة أهداف سياسية وعسكرية.
وكانت الفاغنر رأس الحربة في هذه الاستراتيجية بدءا من حرب جزيرة القرم مرورا بالحرب في سوريا وأوكرانيا وأخيرا استراتيجية التمدد في أفريقيا، وقد بلغت تكلفة تمويل الفاغنر ما يقارب الـ3 مليار دولار سنويا أو ما يعادل 6% من ميزانية الإنفاق العسكري الروسي.

اعتماد موسكو على الفاغنر في هذه الاستراتيجية يستدعي تساؤلات حول تبعات تمرد الأخيرة على أداء القوات الروسية على الجبهة الأوكرانية وما سيترتب على تفكيك الفاغنر من أعباء على القوات النظامية الأقل فاعلية، وفي حين تقتصر مهام الفاغنر في أوكرانيا على العمل العسكري إلا أن نطاق عملياتها في أفريقيا يعد أوسع حيث تشمل عملياتها مهام أخرى ذات بعد سياسي وأمني تتمثل في بناء شبكات العلاقات السياسية والتجارية مع الأطراف المحلية (حكومات، ميليشيات)، كما تولت آلة بريجوزين الإعلامية -شركة باتريوت- عمليات التعبئة وتوجيه الرأي العام، جمع وتحليل المعلومات، التلاعب بالانتخابات وتزويرها، وغير ذلك من مهام، ما يعني أن تفكيك المجموعة سيكون له تأثير سلبي كبير على عمليات موسكو وتأثيرها في عدد من الملفات.

رغم حملة الاعتقالات التي طالت قيادات الجيش المتواطئين مع الفاغنر، واقتحام عدد من مواقع المجموعة داخل روسيا وخارجها، وإنهاء الدفاع تعاقدات الجيش مع شركة “كونكورد كاترينج” المملوكة لبريجوزين وتوجيه بوتن بالاستحواذ على الشركة، إلا أن قائد المجموعة وقيادات الصف الأول تمكنوا من العبور لبيلاروسيا بأمان رفقة أعداد كبيرة من المقاتلين للتمركز هناك، كما تفيد تقارير استقصائية أن بريجوزين عاد لمدينة سانت بطرسبرج سريعا قبل العودة لبيلاروسيا مرة أخرى، وقد عرضت القيادة الروسية على أفراد المجموعة المتبقين إما توقيع عقود “مع وزارة الدفاع أو غيرها من الأجهزة الأمنية أو ترك السلاح والعودة لمنازلهم، ما يشير إلى أن موسكو قررت الإبقاء على المجموعة مع تصفية قيادتها، لكن ذلك يطرح تساؤل حول مدى جدوى ذلك وفاعليته، إذ يقوم العمل في الأوساط العسكرية على المركزية والولاء، وقد تأتي عملية تفكيك الفاغنر بهيكليتها الحالية بنتائج عكسية تؤدي لتراجع الفاعلية الأمنية والعسكرية.

قد تعود أسباب تردد بوتين في ملاحقة بريجوزين بشكل جدي للعلاقة القديمة التي تجمع بين الرجلين، حيث تعود علاقتهما لتسعينات القرن الماضي عندما تولى بوتن منصب عمدة مدينة سانت بطرسبرج، حينها قدم بريجوزين الدعم والولاء الكامل لبوتن في حرب العصابات الشهيرة، قبل أن يصعد الأخير عقب نجاحه في إدارة حرب العصابات بالمدينة لتولي منصب رئيس جهاز المخابرات الفيدرالية. من جهة أخرى فإن هذا التعامل الحذر مع التمرد قد يعكس تخوف موسكو من انهيار عمليات المجموعة في الخارج ما قد يعرقل قدرتها على إدارة بعض الملفات الخارجية المهمة.

المؤكد في الحالة الروسية هو أن تمرد الـ 36 ساعة المحاط بالغموض، والذي لم يذهب بعيدا في أهدافه سيخلف ندوب يصعب معالجتها على المدى القريب، فقد كشفت مغامرة بريجوزين القصيرة ثغرات كبيرة في قبضة القيصر الروسي، فالإعلام الروسي الرسمي كان بطيئا في الاستجابة للتمرد، كما أبدت أجهزة الأمن ضعفا وترددا كبيرين في مواجهة المتمردين بينما تجمد الجيش في ثكناته، كل ذلك وبريجوزين يتحرك بجنوده بين المدن الروسية متجها إلى موسكو. 

قد يكون تمرد بريجوزين انتهى إلا أن الخاسر الحقيقي هو بوتن الذي يواجه الآن خطر انهيار هيبة القيادة المتكأ عليها في أسلوب الحكم الروسي، ليس أمام الشعب الروسي والأطراف الخارجية فقط وإنما أجنحة الحكم الأساسية (قيادات الجيش، التكنوقراط، الـFSB)

الانعكاسات على ليبيا:

أفادت التحقيقات الاستقصائية يوم 1 يوليو باستهداف طيران مسير مجهول قاعدة خروبة العسكرية شرق البلاد، وهي قاعدة إمارتية المنشأ تتخذها مجموعة الفاغنر كنقطة انطلاق وإمداد لوجستية في عملياتها في ليبيا خصوصا وأفريقيا عموما.

يأتي هذا الاستهداف بعد أيام معدودة من أحداث التمرد ونفي قيادة المجموعة لبيلاروسيا، ما يشير إلى أن هناك أطراف دولية قرأت الأحداث الأخيرة على أنها فرصة ذهبية لتوجيه ضربة لمراكز المجموعة الاستراتيجية خارج روسيا، وتشير محدودية الضربات إلى احتمالية كونها عملية “جس نبض” لموسكو.

استهداف الفاغنر في ليبيا قد يعرض عمليات المجموعة في القارة بأكملها للخطر، حيث تمثل ليبيا مركزا أساسيا للتواجد الروسي بالقارة، كما قد يؤثر استهدافها بشكل جاد على ديناميكيات المشهد الأمني والسياسي محليا، حيث يعتمد حفتر على دعم مجموعة المرتزقة اللوجستي والعسكري للحفاظ على توازن القوى الحالي مع الأطراف المناوئة له وفي تأمين الحقول النفطية.

بالإضافة للعمليات الأمنية والعسكرية فإن تقويض نفوذ الفاغنر بليبيا قد يعرض مكاسب موسكو للخطر، حيث يتيح تمركز الفاغنر في القواعد الجوية والمنشآت النفطية الاستراتيجية، ومحيط طرق التهريب والحدود الجنوبية، يتيح لموسكو الإمساك بخيوط عدد من الملفات المقلقة للناتو وأوروبا (الهجرة، تهريب السلاح، الطاقة)

كما يعزز الحضور العسكري من فرص شركات النفط الروسية في زيادة حصتها في السوق الليبي، وقد شهد نشاط الشركات النفطية الروسية ارتفاعا ملحوظا منذ أواخر العام الماضي، حيث وقعت شركة Zarubezhneft التي يديرها الضابط السابق بالاستخبارات الروسية “أليكساندر بيلوف”، مذكرة تفاهم مع شركة الخليج العربي تمنح روسيا حقوق تنقيب واستكشاف جديدة، بالإضافة لمنحها شراكة مع المؤسسة الوطنية للنفط في عدد من الحقول الكبرى مثل السرير ومسلة والحماده، كما تمنح المذكرة روسيا امتيازات أخرى تتعلق بتخزين وتسويق النفط تمكنها من بناء شبكة تجارية تربطها بدول الجوار وهو امتياز يقلق الولايات المتحدة وأوروبا.

كما عقدت شركة تاتنفط اتفاقية شراكة مع المؤسسة الوطنية للنفط للقيام بعمليات الاستكشاف وتقاسم الإنتاج والتطوير في المنطقة 82 بحوض غدامس وعدد من الآبار البرّية في حوض سرت، وأعلنت الشركة مؤخرا عن اكتشاف نفطي جديد بمنطقة حوض غدامس بعد استئناف أعمالها.

خاتمة:

من جهة قد يكون تمرد الفاغنر الحلقة الأولى في سلسلة حوادث قادمة، ومن جهة أخرى قد يضع تفجره بهذا الشكل حدا للصراعات المتنامية منذ أعوام ويفتح المجال لبوتن لإجراء التعديلات الضرورية واللازمة، وبغض النظر عن المآلات المحتملة له إلا أن التمرد والأحداث المؤدية له خلال العام الماضي أفصحت عن تصدعات فعلية في البيت الداخلي الروسي وكشفته أمام الخصوم بشكل قد يعرضه لمخاطر أمنية وسياسية كبيرة.

المؤكد هو أن السياسة الخارجية الروسية ستتطلب تدخلات جراحية في عدد من الملفات الحساسة وعلى رأسها الحرب الروسية-الأوكرانية التي لعب فيها مقاتلو الفاغنر وقيادتهم دورا محوريا وفعالا، والتواجد في أفريقيا الذي تتولى الفاغنر عملياته بشكل شبه كامل وهو ما سينعكس على توازنات القوى التي ساهمت موسكو في إرساءها خلال الأعوام الماضية.

اشترك في القائمة البريدية