طوفان الأقصى: اختراق الترتيبات الأمريكية وعودة مركزية القضية

طوفان الأقصى: اختراق الترتيبات الأمريكية وعودة مركزية القضية

انطلقت عملية طوفان الأقصى في جو من التفاهمات الإقليمية بين شركاء الولايات المتحدة في المنطقة وحلفائها وفي ظل مناخ سياسي بارد أريد به تجاوز القضايا المركزية وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وقد جاءت العملية في سياقين، الأول السياق الفلسطيني، حيث تشهد الأوضاع في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة ترديا كبيرا، ففي الضفة الغربية نشطت عمليات التمدد الاستيطاني وعمليات تهويد القدس وترتيبات حكومة “بنيامين نتنياهو” للتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، في حين عانت غزة تدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية واتساع رقعة الفقر وارتفاع نسب البطالة في ظل حصار صهيوني خانق.

أما السياق الثاني فهو سياق مشروع التطبيع “الدافئ”، فبعد إنهاء مرحلة”مبادرة السلام العربية” التي انطلقت من مبدأ “الأرض مقابل السلام” بهدف إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليا على حدود 1967 وعودة اللاجئين وانسحاب الكيان من هضبة الجولان مقابل التطبيع وهو ما عرف بالتطبيع البارد، تشهد المنطقة اليوم مقاربة تطبيع دافئة تتجاوز الحقوق الفلسطينية وتؤسس لتحالف إستراتيجي بين دولة الاحتلال ومحيطها العربي والإسلامي، وذلك ضمن مشروع تعزيز الشراكة بين حلفاء واشنطن في المنطقة لسد فراغ تقليل الوجود الأمريكي في المنطقة والتصدي للتهديدات المشتركة.

حبل التطبيع قصير:

في موجة التطبيع المعاصرة لم تكتف بعض الدول المطبعة بإنشاء علاقات اقتصادية وسياسية مع الكيان الصهيوني، بل تجاوزت ذلك إلى حد مشاركته في محاولة فرض السردية الصهيونية للصراع والتطبيع الثقافي والمواءمة الفكرية والعقدية مع المشروع الصهيوني، هذه المقاربة الجديدة التي تلغي مركزية القضية الفلسطينية وتهدف إلى تصفيتها عبر عزلها عن المحيط الإسلامي والعربي ودفنها ببطء، حاولت الترويج لمفهوم مفاده أن مسار التطبيع هو مفتاح الاستقرار والأمن في المنطقة.

هذه البروباجاندا، فندها الواقع السياسي والأمني الذي تعيشه دول المنطقة، فرغم المساعي الحثيثة من قبل الأطراف الرائدة في مشروع التطبيع للتسويق لهذا المفهوم، فإن مؤشرات الاستقرار السياسي تشير إلى تراجع مستويات الاستقرار على الصعيدين المحلي والإقليمي مقارنة بمرحلة ما قبل التطبيع، فمحليا تواجه الدول المطبعة قلقا مستمرا من انهيار هذه المقاربة باعتبار أن التطبيع لم يحقق أي مكاسب فعلية للمجتمعات أو حتى مكاسب إستراتيجية للسلطة مقابل ما يفرضه من تحديات داخلية واتساع الهوة بين النظم السلطوية وبين الشارع الإسلامي والعربي الذي لايزال متمسكا بهوية موقفه التاريخي، وهو ما يهدد بتقويض الأمن الداخلي لهذه النظم السياسية ويعرضها لخطر الانفجار من الداخل.

زمن الطوفان:

تزامن تسارع وتيرة مسار التطبيع الجديد مع انطلاق مشروع التقارب والمصالحات بين حلفاء واشنطن في المنطقة بهدف تصفية النزاعات المحتدمة والملفات العالقة، وفي ظل مناخ سياسي خيم عليه التقارب والتسوية، انطلق مسار تقارب موازٍ رعته بكين بين الرياض وطهران، وبعد سنوات من الاضطراب والنزاعات الإقليمية وحروب الوكالة، نحت دول المنطقة خلال السنوات الثلاث الماضية منحى التهدئة والتحول من المقاربة الأيدولوجية-الأمنية ومسار المواجهة إلى التسوية السياسية والمقاربة الاقتصادية التنموية، وقد عزز هذا التوجه من العزلة الفلسطينية، وقيد مواقف وتحركات عدد من “الأطراف الصديقة التي أصبحت مكبلة بهذه التسويات والمصالح الاقتصادية المتبادلة.

قاطعت عملية طوفان الأقصى ترتيبات التسوية، فانتشلت المشهد السياسي من حالة الركود والسيولة الأخلاقية، وأعادت القضية الفلسطينية للمركز وأخرجتها من زاوية الصفقات الضيقة والمساومات المحدودة إلى ساحة المقارعة والحديث عن التحرير.

لم توجه عملية طوفان الأقصى ضربة موجعة لدولة الاحتلال على صعيد الخسائر العسكرية والبشرية فقط، وإنما وجهت ضربة قاتلة لسردية تفوق قوات الاحتلال الأمني والتقني وقدرتها على الردع وتأمين كيانها فضلا عن تعزيز أمن حلفائها في المنطقة، كما كشفت هذه العملية الكيان الصهيوني على الصعيد الأمني وأبانت نقاط ضعفه الكبرى لخصومها المتربصين، وقد وضعته العملية على أعقابه وفي موضع رد الفعل والارتباك لأول مرة منذ حرب 1973.

ستخلف هذه الضربة بلا شك أثرا عميقا يمس التماسك الداخلي لمكونات الدولة الصهيونية ونظامها السياسي وعلاقة مواطنيها بها والتعاقد الاجتماعي القائم بينهما، حيث يمثل انهيار ثقة المستوطنين في قدرة دولتهم على ضمان أمنهم، انهيار أحد الركائز الأساسية التي يقوم عليها الوجود الصهيوني، وهي مسألة استراتيجية حاولت السلطات المتعاقبة معالجتها بإبراز فوقية قدرات جيش الاحتلال وحجم الفجوة في القدرات العسكرية والتقنية بينها وبين خصومها، والتأكيد على القدرات الخارقة للعادة لأجهزة المخابرات الإسرائيلية، لذى فإن أي اختلال في هذا التصور سيعرض فكرة وجود الكيان الصهيوني في حذ ذاتها للشك وهو ما عبر عنه رئيس الوزراء البريطاني ريتشي سوناك بقوله “كانت هذه الفظائع بمثابة ضربة وجودية لفكرة إسرائيل كوطن آمن للشعب اليهودي”.

على مستوى العلاقات العربية-الإسرائيلية فعلى الأرجح أن هذا الحدث سيربكحسابات كثير من الدول العربية المطبعة كما سيحبط أو يعرقل مسارات التطبيع التي كانت تطبخ على نار هادئة، في المقابل سيعيد هذا الاختراق غير المسبوق- الزخم لسردية المقاومة وضرورة دعمها وهو ما سينعكس بشكل مباشر على استقرار النظم السياسية والعسكرية المحتكة بشكل مباشر مع الشأن الفلسطيني وموقف شعوبها منها، أما الخسارة الأكبر فهي تأكيد هذه العملية على مبدأ محوري حاولت مسارات التطبيع الجديد تصفيته، وهو أن تحقيق الأمن على المستوى الداخلي أو الإقليمي غير ممكن في ظل استمرار وجود دولة الاحتلال.

خيارات وتكاليف:

بعد عشرة أيام من انطلاق العملية المزلزلة، لاتزال معالم الساحة الإقليمية والدولية الجديدة غير واضحة، فالعمليات العسكرية من الجانبين مازالت على منحنى الصعود، مع احتمالية اتساع رقعة الاشتباك ودخول أطراف أخرى للمعركة، في المقابل تشهد الساحة الدبلوماسية على المستويين الدولي والإقليمي تحركات بوتيرة متسارعة، فما بين زيارات وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلنيكن” المتتابعة وتصريحاته “الدينية”، وبين تحركات نظيره الإيراني “حسين عبد اللهيان” وتحذيراته بفتح جبهات إذا فاتت فرصة حل سياسي، يتراوح المشهد السياسي بين احتمالات التصعيد والاحتواء.

لكن ما كان واضحا منذ اللحظات الأولى هو الموقف الأمريكي-الأوروبي، وهو موقف مألوف ومتكرر، إلا أن فداحة الهزيمة وحجم الصدمة هذه المرة دفعت الولايات المتحدة لاتخاذ إجراءات استثنائية فأرسلت حاملة الطائرات جيرالد فورد لتعزيز الحضور الأمريكي بمنطقة شرق المتوسط، وأعلنت عن توجه حاملة طائرات ثانية إلى المنطقة، كما صرح مسؤول بالدفاع الأمريكية تخصيص البنتاغون لـ 2000 جندي أمريكي لدعم أي اجتياح بري محتمل لقطاع غزة.

أما الجبهة الأوروبية فكانت ردة فعلها موجهة للداخل في معظمه، وذلك عبر اتخاذ إجراءات قوضت بها مبادئ الديمقراطية وحرية التعبير وهو ما سيكلفها الكثير على صعيد التماسك البنيوي والسياسي-، فألمانيا والنمسا جرمت وقمعت الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين، وفي بريطانيا وفرنسا أصدر وزراء الداخلية مذكرات تحظر رفع العلم الفلسطيني أو الشعارات المؤيدة للفلسطينيين في حين هدد عدد من أعضاء البرلمانات والمسؤولين المتظاهرين بالعقاب فضلا عن تأييدهم للإبادة الجارية على يد طائرات الاحتلال والحصار المفروض على أهل غزة، وقد تجاوزت ردود الأفعال الغربية إساءة توظيف القانون ونقض المبادئ والحقوق السياسية والمدنية إلى الوسائل غير الرسمية حيث تعرض عدد من المتظاهرين والمؤثرين من أصول فلسطينية لتهديدات بالقتل كما تعرضت مواقع جمعيات الإغاثة للاختراق والاستهداف.

تهدف إجراءات واشنطن وتصريحات مسؤوليها بالدرجة الأولى إلى ردع إيران، ورغم إبدائها لتفانيها في دعم “إسرائيل” وتأكيدها على جاهزيتها لدخول الحرب، فإنها تدرك أن خيار الاجتياح البري واحتلال القطاع الذي تتحمس له ربيبتها قد يهدد باندلاع حرب إقليمية ستجرها لورطة جديدة في منطقة تبحث عن تخفيض وجودها فيها، وهي تدرك –على الصعيد الإستراتيجي أن قتل فرص الحرب الشاملة وانفجار الأوضاع في المنطقة أولى من قتل الفلسطينيين، وهو ما عبر عنه بايدن بوضوح في تصريحاته لبرنامج 60 دقيقة حيث قال “من الخطأ الكبير أن تقوم إسرائيل باحتلال غزة مرة أخرى”.

وعلق توماس فريدمان على تصريحات بادين هذه بقوله “ أعتقد أن مثل هذا التحرك قد يحول الهزيمة التكتيكية المذلة التي منيت بها إسرائيل على أيدي حماس.. إلى أزمة إستراتيجية أخلاقية وعسكرية طويلة الأمد. 

إذا دخلت إسرائيل إلى غزة الآن، فسوف تنسف اتفاقيات إبراهيم، وتزيد من زعزعة استقرار اثنين من أهم حلفاء أمريكا “مصر والأردن”، وتجعل التطبيع مع السعودية مستحيلا – وهي نكسات إستراتيجية ضخمة

في المقابل فإن الاجتياح البري يبقى خيارا مطروحا على مضض كحل جذري لتصفية المقاومة، وضمان عودة معادلة الردع، إذا ما لعب الجنون دورا أكبر من الانضباط الإستراتيجي في توجيه القرار العسكري والسياسي، وهو ما تشير إليه تحركات دولة الاحتلال الميدانية حاليا.

تكلفة العمليات البرية الشاملة ستكون مكلفة جدا، وقد وصف “مايكل ميلشتين” ضابط المخابرات العسكرية الإسرائيلية السابق سيناريو الغزو البري بالآتي “هذا يعني أن إسرائيل ستتواجد بمنطقة يقطنها ما يزيد عن 2.2 مليون شخص، معظمهم فقراء للغاية، بالطبع سيكون هناك الكثير من المقاومة،وسيكون الأمر مشابهاً إلى حد كبير للوضع في العراق بعد عام 2003، عندما احتلت أمريكا الدولة، لا أعتقد أن إسرائيل تريد إعادة خلق هذا الوضع”.

نعم، لا تريد “إسرائيل” هذا الوضع، ولن يتحمل نسيجها الاجتماعي والسياسي تكاليف الغزو البري، وهي بخوضها فيه، تكشف نفسها أمام تهديدات ومخاطر كبيرة أولها: طول أمد العمليات وتحولها لحرب تستنزف الاقتصاد والحلفاء، توجه المقاومة لتكتيكات انتحارية تتجاوز نطاق غزة، والاحتمالية العالية بأن يؤدي الغزو إلى فتح جبهات أخرى تشعل المنطقة بأكملها.

يدرك المسؤولون الأمريكيون عبر تجاربهم المتكررة- تكلفة الغزو البري ومواجهة حركات التمرد والمقاومة على الأخص الأصولية منها- وما سيؤدي له من تعزيز شرعيتها في المنطقة وإنعاشها، كما يدركون أن العبئ العملياتي فضلا عن التمويل سيقع على عاتق واشنطن التي تواجه تهديدات استراتيجية على جبهات أخرى، ويؤكد المؤرخ العسكري الأمريكي “مات ماثيوز” في دراسته للغزو الجيش الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 2006 على انعدام كفاءة الجندي الإسرائيلي فيقول “بدا أن القوات الإسرائيلية غير مؤهلة وعاجزة عن شن عمليات برية تقليدية، لقد أظهرت عملياتهم على الأرض جيشا مشوشا في عقيدته العسكرية وجنودا غير مؤهلين وقيادات لا تملك القدرة على خوض حرب حقيقية”

أما على الصعيد الإستراتيجي فإن الاجتياح سيهدد المصالح والترتيبات الأمريكية في المنطقة والعالم، بدءا من تفاهمات التطبيع وإستراتيجية تعزيز الشراكة بين حلفائها في المنطقة، مرورا بالحد من قدرتها على التصدي لمخاطر وتهديدات أخرى (حرب أوكرانيا، جبهة بحر الصين الجنوبي وتايوان)، انتعاش الحركات الإسلامية والجهادية في المنطقة وتهديد أمن حلفائها وحراس أمن الكيان الصهيوني مصر والأردن.

إن حماس بعمليتها الأخيرة لم تخترق جدار المليار دولار العازل فقط، وإنما اخترقت عمق الاستراتيجية الأمريكية وضربت الترتيبات المعدة لتجاوز القضية والحقوق الفلسطينية، إن هذا النجاح المتمثل في إحياء القضية وإعادتها للمركز وفرض معادلة ردع جديدة وكسر هيبة دولة الاحتلال والمفهوم الذي قامت عليه كموطن آمن لليهود، هذا النجاح لن تسلبه محاولات جيش الاحتلال برفع التكلفة البشرية للحرب، فقد تحقق وحُفر في ذاكرة العالم بعبور المقاتل الأول.

اشترك في القائمة البريدية