معضلة الأمن بين غلط المقاربة وتعقيدات المشهد

معضلة الأمن بين غلط المقاربة وتعقيدات المشهد

لايزال التحدي الأمني أحد أعقد تحديات المشهد الليبي وأكثرها استعصاء على المعالجة، حيث تشهد البلاد تدهورا في الأوضاع الأمنية منذ انتهاء الثورة المسلحة أواخر 2011. ويعود الاضطراب الأمني المزمن إلى عدد من الأسباب المتفاوتة في عمقها وموقعها من تاريخ البلاد السياسي، فبعضها مستحدث مثل الصراع السياسي الناشئ ما بعد ثورة 17 فبراير وما صاحبه من تدخلات خارجية على الصعيد اللوجستي والأمني، وبعضها يمس قضايا أعمق تتعلق بالتركيبات الاجتماعية، العداوات والمظالم التاريخية، هيكلة الدولة والنموذج الاقتصادي المعمول به.

كما تتفاوت تصنيفات مسببات الاضطراب الأمني، فإن تباين المراحل الزمنية خلال الإحدى عشرة سنة الماضية لعب دورا أساسيا في إبراز مسببات على حساب أخرى، فخلال 2011-2013 برزت العداوات الجهوية والقبلية التاريخية المسببَ الأبرز للاضطراب الأمني، ثم خلال 2014-2017 برزت قضية الانقلاب والتدخلات الخارجية مسببا أساسيا للأزمة، وأخيرا في 2017-2021 برزت قضية التوزيع العادل للثروة والحكم مسببا أساسيا في الاضطرابات الأمنية. تناقش هذه الورقة الأسباب الكامنة وراء استمرار الاضطراب الأمني وفشل السلطات المتعاقبة، الأطراف الدولية، والجهات الفاعلة في معالجة هذه المسببات، على افتراض جدية هذه الأطراف في محاولة حل المشكلة –وهو ما لا ينطبق على معظمها-.

29 مليون قطعة سلاح !

تفيد التقارير الرسمية بوجود عشرات الملايين من الأسلحة “غير المراقبة” في ليبيا، ويكشف تقرير صادر عن الأمم المتحدة في فبراير 2020 عن وجود 29 مليون قطعة سلاح ما بين ثقيل ومتوسط وخفيف، وهو عدد لم يسجل في أي بلد آخر خلال الأربعين عاما الماضية، ويحذر التقرير الأممي من التهديد الذي يشكله انتشار هذه الأسلحة على حياة المدنيين، كما يشير إلى أن أحد أهم أسباب تفاقم الأزمة السياسية في ليبيا هو انتشار السلاح “غير المراقب”.

تثير قضية انتشار السلاح قلق عدد من الجهات الدولية لكن حتما ليس للأسباب المشار إليها في التقرير السابق، فرغم انتشار السلاح في مختلف أنحاء البلاد فإن معدل حوادث العنف المسلح ضد المدنيين في ليبيا ظل منخفضا نسبيا حتى في أوقات الأزمات الاقتصادية والحروب، في حين تشهد عدد من الدول المستقرة أمنيا مثل الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا وغيرها، تزايدا مستمرا في معدلات الجريمة والجريمة المنظمة، وهو ما يؤكد أن انتشار السلاح في حد ذاته لا يشكل بالضرورة خطرا على المدنيين.

تكشف الوقائع على مدار العقد الأخير أن انتشار السلاح قاد إلى نتائج مغايرة للصور النمطية عن تأثيره على الأمن المجتمعي، حيث عمل انتشار السلاح رادعا أرجأ وأحبط كثيرا من الصراعات المسلحة، كما تبين الأحداث خلال السبع سنوات الأخيرة (ما بعد انقلاب خليفة حفتر) أن حالة انتشار السلاح تخدم الأمن السياسي المجتمعي في حين تؤدي حالة مركزية السلاح إلى العكس تماما، إن قلق الأطراف الدولية من قضية انتشار السلاح لا ينطلق من الحرص على الأمن المجتمعي وإنما من الحرص على الأمن السياسي والتخوف من تحول السلاح من أداة مركزية للهيمنة إلى أداة غير مركزية للتغيير.

إن حوادث العنف المسلح ترتبط بشكل وثيق بفشل الجهات المسؤولة في معالجة عدد من القضايا السياسية الطارئة وعلى رأسها التدخل الخارجي والانقلاب، كما ترتبط ارتباطا وثيقا بقضايا أخرى لها جذورها التاريخية مثل: المشاركة في الحكم وتوزيع الثروة (المركزية والريعية)، وعليه فإن تصنيف انتشار السلاح على أنه سبب أساسي في تفاقم الأزمة السياسية وتهديد للأمن المجتمعي؛ هو مغالطة كبرى تتجاوز المسببات الجوهرية للاضطراب الأمني والسياسي.

 إن مقاربة معضلة الأمن تبدأ من معالجة المشاكل السياسية والهوياتية المزمنة، لا من تجريد المجتمع من وسيلة الدفاع والتغيير الأهم، فانتشار السلاح وإن كان له سلبيات عدة يبقى الرادع الوحيد أمام أطماع الهيمنة والاستغلال الدولي والإقليمي وهو أهم مكتسب من مكتسبات ثورة 17 فبراير.

المركزية، وقود الاضطراب:

أحد أكبر إخفاقات ثوار 17 فبراير كان انخراطهم في آلة الدولة دون معالجة لأعطابها الكبرى، حيث قاد الثوار المركبة نفسها التي قادها القذافي طيلة 42 عاما متوقعين حدوث التغيير السياسي والاقتصادي بمجرد “إسقاط النظام”، غافلين عن أن “النظام” ليس مجرد شخوص وأجهزة أمنية.

الأمر لا يحتاج إلى خبراء ومحللين ليخبرونا أن دولة القذافي بتركيبتها السياسية والإدارية وتشريعاتها وبنائها الاقتصادي، غير صالحة لحكم المكونات الاجتماعية لهذا البلد بالقسط وخدمة صالحها العام، إن التاريخ السياسي لليبيا وتفصيلها الجغرافي وتركيبتها السكانية تخبرنا بوضوح أن مركزية الحكم لا تخدم السلم والأمن المجتمعي ولا حقوق المكونات الاجتماعية وحرياتها ولا حتى النمو الاقتصادي للبلاد عامة.

إن الاستمرار في قيادة الدولة عبر مؤسسات تشريعية وأجهزة أمنية مستحدثة دون صناعة هوية سياسية ونظام سياسي جديد يعالج المظالم والإشكالات التاريخية، لا يمكن إلا أن يفاقم حالة التشظي والفشل المستمرة منذ 10 أعوام والتي تصنع بدورها حالة العنف والاضطراب الأمني.

إن الاضطراب الأمني الذي تعيشه البلاد ناتج عن فشل بناء نظام يضمن حقوق مختلف المكونات والشرائح الاجتماعية وهو في حقيقته تعبير عن حالة من اليأس التي تقود بطبيعة الحال إلى التوحش وتفتح فرص الاستغلال السياسي للمظالم التاريخية، ففي ظل العجز عن ضمان الحقوق وفرص البناء تتعزز حالة النقمة وتبرز المجموعات السياسية والأمنية المفترسة لانتزاع الغنيمة وتأسيس شبكات داخل الدولة لخدمة مصالحها الخاصة.

بالإضافة إلى التهديد الداخلي الذي تشكله المجموعات المفترسة على تماسك الدولة والمجتمع، فإن فرص انفصال المكونات السكانية الطرفية تتزايد، ورغم أن تجسد الانفصال جغرافيًا قد يتطلب عددا من العوامل المساعدة فإن الانفصال على مستوى الولاء السياسي والارتباط الهوياتي مؤكد في هذه الظروف، وهو ربما أخطر في ظل المعطيات الجيوسياسية  الحالية: رقة الكثافة السكانية، طول الحدود، تردي الحالة الاقتصادية للمنطقة، وأخيرا وليس آخرا تربص أطراف دولية وإقليمية، ولا يمكن للمركزية أن تفرز نتيجة نهائية غير هذه، خصوصا في ظل غياب قوى قادرة على إحكام سيطرتها على البلاد.

تعقيدات المشهد وجدوى المقاربة السياسية:

بالنظر للمشهد الأمني المركب قد تبدو المقاربة السياسية للمعضلة الأمنية غير واقعية أو فعالة، لكن عند الحديث عن بلد تعرض للتشويه السياسي لما يقارب النصف قرن، ثم انقسام سياسي لعقد من الزمن فإن الحلول لا يمكن أن تكون سريعة ومباشرة.

المقاربة السياسية لا تهدف إلى إنهاء الاضطراب الأمني وإنما إلى تقويض مسبباته، وبالنظر إلى مختلف الصراعات المسلحة التي مرت بها البلاد سنجد أن مرتكزاتها واحدة -رغم تباين المسببات المباشرة-، فالانقلاب العسكري الذي قام به خليفة حفتر كان ومازال يبحث عن السيطرة على المركز في طرابلس، وإغلاق قوات إبراهيم جضران للحقول والموانئ النفطية بالمنطقة الوسطى كان لغرض ابتزاز سلطة طرابلس، والصراع الدائر بين المجموعات المسلحة في المنطقة الغربية هدفه الأساس الهيمنة على مصادر الريع بطرابلس.

الكلمة المفتاحية في المعضلة الأمنية هي: طرابلس، فرغم تشابك المشهد وتعدد العوامل المسببة للصراع الداخلي كطغيان الهوية الجهوية والقبلية على حساب الوطنية، الارتهان للخارج، وفساد النموذج الاقتصادي المطبق، فإن قطب الرحى الذي تدور حوله هذه الإشكاليات هو مركزية السلطة والحكم.

بين “فشل” الداخل ومصالح الخارج:

فشل الأجسام والمؤسسات السياسية والأمنية المختلفة والمتعاقبة في حل معضلة الأمن يوضح أن استحداث هذه الكيانات في ظل نظام سياسي مشوه على مستوى البناء الإداري والتعاقد الاجتماعي، لا يمكن إلا أن يفاقم الأزمة، فبالإضافة إلى عجز هذه المؤسسات عن إحداث تغيير جذري فهي تتحول مع الوقت إلى ما يشبه الأرخبيل يستغل كل كيان فيه لخدمة مصالح المجموعات المتنفذة بعيدا عن المصلحة الوطنية.

إن الفشل في هذه الحالة ليس مدفوعا بعطب النظام السياسي والتفكك الداخلي فقط وإنما بمقاربة الأطراف الدولية للملف الليبي أيضا، حيث تعتمد الدول المتورطة في النزاع على فشل النظام السياسي في إنتاج دولة متماسكة لخدمة مصالحها، وهي مستفيدة من استمرار مركزية الدولة التي تضمن استمرار معادلة الإنهاك الصفرية، بما فيها الأطراف “الداعمة” للثورة.

على الطرف الآخر من التدخل الدولي يأتي دور البعثة الأممية التي أسهمت مبادراتها السياسية في تعزيز حالة التشظي السياسي وما صاحبه من اضطرابات أمنية، بدءا من اتفاق الصخيرات الذي شرعن انقسام المؤسسة التشريعية ومؤسسات الدولة السيادية، مرورا بالترتيبات الأمنية لمارتن كوبلر على يد مستشاره العسكري “باولو سييرا” والتي تمخضت عن تنفذ ما يشبه “كارتل” عصابي داخل مؤسسات الدولة، وانتهاء بتدخل البعثة في عمل الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور.

خاتمة:

إن الاستمرار في المسار السياسي الحالي الذي تقوده البعثة الأممية لا يمكن أن يفرز حلا للمشكلات المزمنة التي تعانيها البلاد، فالهوس بإحداث توافق شكلي على أنقاض دولة ينطبق عليه المثل الشعبي الشهير في عدم نجاعة ترميم أو إصلاح البائد من الأشياء “ما ينفع في البايد ترقيع”.

كما أن المشكلة الكبرى التي تعانيها البلاد تكمن في عطب منظومة الدولة أساسا التي صممت على أساس يمنع استحداث أي تغيير حقيقي من داخلها والاعتماد على مسارات موازية لإنجاز الأشياء، بالإضافة إلى ذلك فإن انتشار السلاح وارتكاز المجاميع المسلحة في العاصمة وحصر وتقييد فئة المنتفعين من الريع في جهة واحدة من البلاد، هو ما يثير الحنق والغضب ويؤدي إلى صعود موجات الإضراب وتحويل الغضب العارم إلى حالة تمرد على الدولة وانتفاء الشعور العام بالانتماء.

وبالنظر إلى التحديات التي تسوقها الورقة فإن فكرة التوافق والحل السياسي تبدو ماراثونا خارج المضمار المرسوم لحل الإشكال، بل قد تتعداه لتكون مسكنا للنخب السياسية المنتفعة بعيدا عن حل الإشكال الحقيقي للبلاد والمواطنين بمختلف جهاتهم وتركيباتهم.

وعليه فإن مسارات البعثة الأممية والمسارات المرسومة دوليا هي مسارات تقدم مصلحة ومنفعة الدول المتضررة من الأزمة الليبية والاضرابات والفوضى التي تلقي بظلالها على أمنهم واستقرارهم ما يجعل نظرتهم إلى الملف ومعالجتهم لهو تنطلق وتنبع من هذه الزاوية بعيدا عن النظر بموضوعية إلى آثار انهيار النظام عام 2011 وفرصة بناء نظام سياسي جديد يمثل الحل والركيزة الأساسية للاستقرار السياسي والوئام الاجتماعي في البلاد.

اشترك في القائمة البريدية