<strong>قوارب الهجرة كسب مادي واستغلال سياسي </strong>

قوارب الهجرة كسب مادي واستغلال سياسي 

شنت القوات الأمنية والعسكرية التابعة للقيادة العامة للقوات المسلحة شرق البلاد) أوائل الشهر الحالي حملة على المهاجرين غير النظاميين القادمين من مصر الموجودين بالمناطق الواقعة أقصى شرق البلاد مثل (امساعد، كمبوت وتمكنت خلال هذه الحملة غير المسبوقة من القبض على أكثر من 4000 مهاجر مصري، ومداهمة عدد من مراكز نقل المهاجرين على طول طريق التهريب الممتد حتى السواحل الليبية بمنطقة البطنان.

تأتي حملة القوات التابعة للجنرال حفتر، عقب لقاءاته المتتابعة خلال الشهرين الماضيين مع عدد من المسؤولين الأوروبيين داخل البلاد وخارجها، كان من أهمها لقاءاته بالمسؤولين الإيطاليين (رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، وزير الدفاع غويدو كروسيتو، وزير الخارجية أنتونيو تاجاني، ووزير الداخلية ماتيو بيانتيوزي) خلال زيارته لروما أوائل مايو الماضي.

تحرك تكتيكي أم تحول نوعي:

لم تشهد المنطقة الشرقية خلال السنوات الماضية أية مقاومة لموجات الهجرة القادمة عبر الحدود الشرقية والجنوبية، بل على العكس من ذلك فقد شهدت تجارة تهريب المهاجرين القادمين من الجنوب والشرق أو حتى ممن دخلوا المنطقة عبر معبرها الجوي الرسمي (المهاجرين الآسيويين والسوريين) ازدهارا كبيرا، مما أسهم في إثراء القيادات الأمنية والعسكرية والقيادات القبلية الفاعلة التي تشرف على مسارات التهريب وترتزق منها.

في حين يمثل ملف الهجرة أحد المحاور الأساسية للعلاقات السياسية الأوروبية-الليبية، لكنمقاربة حفتر له خلال السنوات الماضية كانت مقاربة مالية بحتة، فمع تفاقم الأزمة المالية لديه وفشل الحملة العسكرية على طرابلس واجه حفتر مشكلة حقيقة في الحفاظ على تماسك المكونات المتعددة لقواته المسلحة، فامتهن نشاطات التهريب على اختلافها، وسيطر على مساراتها على الأرض لضمان استمرار ولاء التشكيلات العسكرية المحلية والأجنبية على حد سواء، حيث شكلت قوات الدعم السريع جزءا مهما من خط التهريب الممتد من منطقة العوينات وعبر الصحراء الشرقية الجنوبية حتى السواحل الشرقية ببنغازي وطبرق.

الحملة الأمنية الأخيرة تحتمل القراءة من زاويتين، الأولى هي أن هذه الحملة قد تكون مقدمة لتحول نوعي في مقاربة حفتر لملف الهجرة يأتي على خلفية حدوث تفاهم مع القوى الأوروبية وعلى رأسها روما -المتضرر الأكبر من موجات الهجرة- وهو ما يعني بالضرورة وجود اتفاق مالي مجزي مع هذه القوى. 

الزاوية الثانية، هي أن هذه الحملة لا تعدو عن كونها حراك أمني لإعادة ترتيب البيت الداخلي وإحكام السيطرة على المناطق الواقعة خارج سيطرة قوات صدام حفتر، وهو ما تؤكده الجهات القبلية المتضررة من الحملة الأخيرة، حيث أشار عدد من المصادر القبلية إلى أن كل مسارات التهريب الأخرى الواقعة تحت سيطرة كتائب مسلحة تتبع صدام حفتر- لم تتعرض للتضييق وأن الحملة الحالية ما هي إلا محاولة من “القيادة العامة لإحكام سيطرتها على مسارات التهريب في تلك المناطق ونقل خطوط الهجرة فيها لمسارات أخرى لضمها لموارد هيئة الاستثمار العسكري”.



تبعات:  

أثارت الحملة الأمنية حفيظة عدد من المكونات القبلية (العبيدات، القطعان، المنفة، الحبون) التي تعتبر هذه المناطق مناطق نفوذ خاصة بها، إلا أن احتجاجات هذه المكونات المتضررة لم تترجم لردة فعل مؤثرة على الصعيد السياسي أو الأمني، كما لم تستطع هذه المكونات تسخير علاقاتها بالشخصيات السياسية والأمنية الفاعلة وعلى رأسهم رئيس البرلمان “عقيلة صالح” الذي تشهد علاقته بحفتر وأبناءه انتكاسة حادة-، لم تستطع تسخيرها للتوسط عند “القيادة العامة” للحد من أضرار هذه الحملة.

رغم فشل المكونات القبلية شرق البلاد في ترجمة السخط المتزايد تجاه تمدد نفوذ أبناء حفتر والتشكيلات العسكرية التابعة لهم إلى حراك يردع مزيد من القمع والإجراءات التعسفية، فإنالاحتقان المتزايد يفصح عن تآكل القاعدة الشعبية التي انطلق منها حفتر بداية حملته العسكرية في 2014 وانحسار نفوذه في القوة العسكرية المجردة المتمثلة في بضعة تشكيلات مسلحة تابعة لأبنائه، وهو تهديد واضح لاستقرار منظومة الحكم القائمة شرق البلاد.

على المستوى الإقليمي والعربي يمثل موقف القاهرة التي تمسها التحركات الأخيرة على أكثر من مستوى– العنصر الأهم في التأثير على ديناميكيات المشهد السياسي والأمني شرق البلاد، وبحسب مصادر سياسية مطلعة فإن رئيس جهاز المخابرات المصرية عباس كاملاجتمع بكل من عقيلة صالح وحفتر عقب احتدام الخلافات بين الطرفين حول عدد من الملفات أبرزها الموقف من مسارات التسوية الجارية مع حكومة الوحدة الوطنية وإقالة رئيس الحكومة الموازية فتحي باشاغا، وأفادت ذات المصادر أن الطرف المصري أبدى امتعاضه من تحركات حفتر الأخيرة.

تباين مواقف حفتر وأبنائه عن القاهرة في عدد من الملفات على رأسها مقاربة العلاقات مع أنقرة وطرابلس، والغياب التام للدور المصري في مسارات التفاوض الجارية مع حكومة طرابلس، مقابل انخراط أبو ظبي المكثف، يشير بوضوح إلى تراجع العلاقات بين الطرفين، ما سيضطر القيادة المصرية إلى الاتكاء على علاقاتها بالبرلمان والمكونات القبلية في الشرق والانحياز لها.

خلاصة:

بغض النظر عن كون الحملة الأمنية على مجموعات التهريب تحرك سياسي أم أمني، إلا أنه مما لا شك فيه هو أن تمدد نفوذ حفتر وأبنائه على الأرض يفتح أمامهم مساحات جديدة على الساحة السياسية الدولية خصوصا في ظل صعود اليمين واتجاهات الواقعية السياسية في عدد من دول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها إيطاليا، الأمر الذي يضعف موقف خصومهم السياسيين، لكن في المقابل فإن التمدد الذي يحرزه صدام حفتر عبر القوة الخشنة على حساب مكونات قبلية وأخرى سياسية محلية وإقليمية يمثل تهديدا لاستقرار منظومة الحكم شرق البلاد.

اشترك في القائمة البريدية