<strong>ثروات المتوسط تشعل حدود ليبيا البحرية</strong>

ثروات المتوسط تشعل حدود ليبيا البحرية

لم تثنِ المصافحة الودية بين رجب طيب أردوغان وعبدالفتاح السيسي في افتتاح كأس العالم بقطر منتصف نوفمبر الماضي؛ الرئيس المصري عن الاستمرار في طريق التصعيد تجاه ليبيا وتركيا لتوقيعهما مذكرة تعاون في مجال الهيدروكربونات برا وبحرا في الجزء الشرقي من المتوسط؛ بإصداره قرارا يرسم الحدود البحرية والبرية المصرية مع ليبيا بشكل فردي. تزامن صدور قرار السيسي مع توجيه كل من تركيا وليبيا رسالة للأمم المتحدة لتفنيد ما وصف بمزاعم اليونان بانتفاء الأهلية القانونية لحكومة الوحدة الوطنية التي تخولها إبرام تعهدات دولية، وهو ما ينفيه الطرفان في رسالتهما مؤكدين أن حكومة الوحدة تستند إلى قاعدة قانونية تسمح لها بالتفاوض مع الدول الأخرى وإبرام الاتفاقات معها.

وزارة الخارجية بحكومة الوحدة الوطنية رفضت القرار الرئاسي المصري، وعدت الخطوة انتهاكا للمياه الإقليمية والجرف القاري للدولة الليبية، وأن الترسيم غير عادل لإعلانه من جانب واحد. ورأت الوزارة أن الخطوة المصرية مخلة بمبدأ حسن النية ومخالفة لما تدعيه مصر دوليا وإقليميا من احترامها لسيادة الدولة الليبية، داعية السيسي إلى إطلاق تفاوض يعالج الإشكال عن طريق الاحتكام لمواثيق الأمم المتحدة بما في ذلك محكمة العدل الدولية.

تصعيد مستمر

لم تخف اليونان امتعاضها الشديد من مذكرة التفاهم الليبية التركية المشتركة لترسيم الحدود البحرية بين البلدين في 27 نوفمبر 2019، ورفضت رفضا قاطعا مذكرة التفاهم الثانية في الثالث من نوفمبر الماضي، متبعة ذلك بخطوات تصعيدية تجاه البلدين ليس آخرها مغادرة وزير خارجيتها نيكوس ديندياس مطار معيتيقة الدولي بطرابلس دون مقابلة وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش وتوجهه للقاء حكومة فتحي باشاغا في بنغازي. موقف شبيه سبق إليه المصريون، برفضهم تولي الخارجية الليبية رئاسة اجتماع وزراء الخارجية العرب، ومغادرة وزير الخارجية سامح شكري القاعة فور تسلم نجلاء المنقوش رئاسة الجلسة، ما اعتُبر تجاوزا دبلوماسيا غير مقبول من الجانب الليبي والعربي عموما، بالرغم من تحجج المصريين بانتفاء الشرعية عن حكومة الوحدة!

الموقف اليوناني المتشدد تدعمها فيه مصر منذ البداية، فقد صعد البلدان موقفهما بتصنيف حكومة الوحدة الوطنية بـ”منتهية الولاية” نظرا لانتهاء المدة المقررة لها من قبل الأمم المتحدة، وطالب سامح شكري في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره اليوناني المجتمع الدولي باتخاذ موقف من عدم شرعية الحكومة الليبية. هذا الموقف قلل من أهميته الناطق باسم وزارة الخارجية التركية طانجو بيلغيتش معتبرا أن الاتفاق أبرم بين دولتين تتمتعان بالسيادة وأنه لا يحق لليونان والاتحاد الأوروبي الاعتراض عليه، قبل أن يجدد وزير الخارجية جاويش أوغلو موقف بلاده الداعم لليبيا كوحدة متكاملة بشرقها وغربها وجنوبها، وإن تركيا ستقف في وجه حملات زعزعة الوحدة فيها.

حالة الاستياء المتصاعدة من قبل اليونان ومصر إزاء مذكرة التفاهم الثانية الموقعة بين ليبيا وتركيا تنطلق من كون الاتفاق يمهد لبداية واقع جديد شرعت تركيا في تشكيله فيما يخص ثروات البحر الأبيض المتوسط، فقد نص الاتفاق المشترك بشأن تطوير مشاريع الطاقة على بنود تنظم العمل فعليا بين البلدين في مجالات التنقيب عن المحروقات وإنتاجها ونقلها وتكريرها والاتجار بها، وفقا للمساحات البحرية التي تتيحها مذكرة ترسيم الحدود الأولى. هذا الواقع العملي الجديد جعل كلا من مصر واليونان يسعيان بقوة لإيقافه مخافة تحوله إلى أمر واقع ينهي مشاريعهما المستقبلية وتصوراتهما لما يجب أن تكون عليه خريطة الحدود في المتوسط.

حلبة الصراع

يحتدم الصراع التركي الأوروبي حول مخزون الغاز في البحر الأبيض المتوسط وحقوق التنقيب عنه منذ سنوات ماضية، إلا أن لحظة توقيع تركيا مذكرة لإعادة ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا نهاية 2019 تعد نقطة فاصلة جعلت الخصومة تشتد وتأخذ أبعادا مختلفة، على رأسها تحول ليبيا إلى ساحة لحالة الخصومة التركية اليونانية. ونظرا لخلفيات عدائية سابقة في نفس الصدد بين تركيا ودول أوروبية بينها فرنسا واليونان فإن الاتحاد الأوروبي لم يتوانَ في أخذ موقف متشدد من الأزمة، وأقر من خلال تصويت البرلمان الأوروبي بأغلبية أعضاءه في 24 نوفمبر الماضي على الطلب من السلطات الليبية إلغاء مذكرتي التفاهم الموقعتين مع تركيا كما نص القرار على حث ليبيا على عدم تنفيذ اتفاقية الهيدروكربونات التي أعلن أردوغان أنهم باشروا التجهيز للمضي قدما في تنفيذها، متجاهلا بذلك إعلانات أوروبا الغاضبة باستمرار والتي وصلت في بعض الأحيان إلى التهديدات العسكرية المتبادلة بين أنقرة وأثينا.

يمكن القول إن هشاشة الوضع السياسي في ليبيا جراء الانقسام واحتياج كل طرف إلى نصير خارجي يستند إليه، مع ما تعانيه الدولة من ضعف على مواجهة تعديات الآخرين حيالها؛ كل ذلك يجعل تركيا ومصر واليونان تفضلان ساحة ثالثة للمواجهة وممارسة الضغط المتبادل، فهو أقل كلفة من استهداف مصالحهما المباشرة. هذا الأمر يعزز حالة الإنهاك التي تعانيها البلاد لاسيما وأن هذه الدول شريكة في الأزمة بتدخلاتها المباشرة وغير المباشرة.

بقي أن نشير إلى أن الموقف السياسي الراهن لحكومة الوحدة الوطنية يحتم عليها المضي في التعاون مع الجانب التركي لما لها من مصالح سياسية معه وأخرى اقتصادية أيضا، ولمحورية الوجود التركي الداعم لها ضد محاولات حفتر ومصر التوسعية، الأمر الذي يجعل موقفها التفاوضي قويا بالنظر إلى الواقع المفروض بشأن الحدود الغربية بينها وبين تركيا في ظل استئثارها بالشرعية القانونية في البلاد.

لا شك إن ما قام به الرئيس المصري سوف يعقد علاقات بلاده المتعثرة مع تركيا إلا أن ما من قد يصعب على تركيا تجاوزه، وإنه سيصيب علاقات الدولتين بالشلل، فتعقيدات العلاقة بين البلدين تجعل من المتوقع تجاوزهما لهذه الإشكالية في خضم الملفات الكثيرة المشتركة، مع الأخذ في الاعتبار أن انحياز مصر للجانب اليوناني يأتي في سياق المناكفة السياسية، في ظل تأكيد الجانب التركي أن دخول مصر في التصور التركي للتقسيمة الحدودية سوف يحقق استفادة اقتصادية كبيرة للمصريين.

اشترك في القائمة البريدية